ماهو مبدأ “التترس” في الفقه الإسلامي؟
الأحد مارس 20, 2022 3:11 pm
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد المختار الأمين وعلى آله الأتقياء الطيبين وأصحابه المخلصين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين رضي الله عنهم أجمعين.
حينما تكلم علماؤنا المتقدمون عن الجهاد وشروطه وأحكامه ناقشوا بعض الأمثلة الافتراضية الوهمية، كطريقة عملية لشحذ أذهان تلاميذهم ووضعوا قواعد أصولية تستخدم في تناول تلك الأمثلة. هذه الأمثلة تسمى “الفقه الافتراضي” ومسائله تدعى الفروع، وهي ترتبط بقواعد عامة تدعى “الأصول”. لذا فان عملية شحذ الذهن تلك هي متعلقة في الأساس بربط الفروع بأصولها الشرعية الصحيحة. ولنأتِ الآن ببعض تلك المسائل، قال الخطيب البغدادي: “لما دخل قتادة – رحمه الله – الكوفة، قال: والله الذى لا إله إلا هو ما يسألنى اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أبا حنيفة – رحمه الله – فقال: يا أبا الخطاب ما تقول فى رجل غاب عن أهله أعواما، فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول ما تقول فى صداقها؟ وقال لأصحابة الذين اجتمعوا إليه: لئن حدث بحديث ليكذبن، ولئن قال برأى نفسه ليخطئن، فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، قال: فلم تسألنى عما لم يقع؟ قال أبوحنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه”. فكان هذا هو الأساس الذي انطلق منه الفقه الافتراضي.
لقد تبنى معظم الفقهاء هذه الفكرة، ناهيك عن كل الفقهاء المعاصرين، وقد استدلوا على ذلك ببعض الحوادث التي استخدم فيها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا المبدأ حينما سُئل عن الكثير من الوقائع الافتراضية في مناسبات عديدة. ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام على السائل، بل أجاب عنها من دون أن يقول: أنت تسأل عن أشياء لم تقع! ولعل أحدى تلك المناسبات ما رواه المقداد بن عمرو الكندي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله” فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال” (متفق عليه).
ولعل من أشهر الأمثلة ما يسميه فقهاؤنا (التترس). وهو مصطلح مطابق لما يطلق عليه الآن (الدروع البشرية)، وهو أن يقع مسلمون في أسر الكفار الذين هم في حالة حرب مع المسلمين، ويعلم كلا الطرفين بذلك، فيضعون الأسرى في مقدمة الجيش لكي يكف المسلمون عن رمي الجيش لأن ثمة مسلمين أبرياء سيتعرضون للقتل أولاً. وفي عالمنا المعاصر تطبق نفس الفكرة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون المدنيون من الأعداء هم الدرع.
وقد استخدم تنظيم داعش هذا المبدأ إبان سقوط الموصل على سبيل المثال. وبالمثل، ففي الحروب المعاصرة حينما يتموضع المسلحون عمداً وسط المدنيين ويطلقون الصواريخ من مناطق مدنية فهم يعلمون بأنهم سيتعرضون لهجمات مضادة. وعندما تضرب هذه الصواريخ أو القنابل لضرب مناطق مدنية تحتوي على أهداف معينة فان الهدف ستتم معالجته ولكن مع خسائر جسيمة في المدنيين، يشار إليها غالباً ببرود بوصفها (خسائر جانبية) في عالمنا اليوم. فكل هذه الممارسات، من استخدام جنود العدو أو المدنيين الأبرياء كدروع بشرية، أو تموضع المسلحين وسط مناطق مدنية مع علمهم المسبق بأن العدو قد يهاجم هذه الوحدات مسبباً خسائر مدنية جسيمة، كلها تعتبر حراماً لأن حفظ أرواح المدنيين له الأولوية مقارنة بالقضاء على الأعداء، والحرب في الإسلام فيها مباديء أخلاقية مخصوصة. وينطبق المبدأ ذاته على أيضاً على الذين يضربون أهدافاً لمسلحين متموضعة بين المدنيين وهم يعلمون يقيناً بأنهم سيسببون خسائر جسيمة بين المدنيين حتى لو دمروا أهدافهم المطلوبة كذلك. الحفاظ على أرواح الأبرياء يعتبر أولوية وهو ما يجعل هذه الممارسات حراماً.
وتعمد تنظيمات مثل داعش والقاعدة والشباب إلى توسيع هذه الفكرة لتكون مظلة لممارساتهم. فهم يقتلون المدنيين عمداً حينما يستهدفون عدوهم المزعوم، وهم يبررون ذلك العمل الخاطيء بادعائهم إن ذلك يقع تحت مسمى (التترس). وأعتقد إن أفضل طريقة للتعرف على هذا الموضوع هي قراءة ما كتبه علماؤنا المتقدمون المبرزون عن هذه المسألة وإسقاطاتها الشائكة على الواقع في أوقات الحرب. يقول ابن تيمية في كتابه (مجموع الفتاوى): ” وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم” (28/537-546، 20/52). وقال الإمام الغزالي: “ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية” (المستصفى 1/176-177).
ولم يجز كثير من العلماء الآخرين قتل الترس الذي يستخدمة العدو وقالوا بأن هذا حرام. ومن هؤلاء الإمام الأورزاعي والليث بن سعد والإمام مالك وكثير غيرهم. وقد استدلوا بالأدلة الآتية:
• قوله تعالى: ” وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” الفتح-25). فنستدل من الآية السابقة على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ تستحيل أذيته إلا بأذية المؤمن.
• حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَزوال الدنيا أهو على الله من سفك دم مسلم بغير حق” (سنن النسائي، 3987).
• قال الإمام ابن القاسم، سمعت مالكاً وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم، أنرمي في مراكبهم النار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك لقوله تعالى: ” وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” (القرطبي، 16-286).
• وقال الليث بن سعد: “ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق” (القرطبي، 16-286).
ولنتفحص الآن ما قاله الذين يجيزون قتل الترس المسلم وما هي شروطه التي وضعوها لفعل ذلك. قال الإمام القرطبي: “قلت: قد يجوز قتل الترس ولا يكون فيه اختلاف ان شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية” (القرطبي، 16-286). وقال العز بن عبد السلام: “المثال التاسع والثلاثون: قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة، إلا إذا تترس بهم الكفار، وخيف من ذلك اصطلام المسلمين، ففي جواز قتلهم خلاف، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من قتل جميع المسلمين” (قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1-95). وقال الإمام النووي: “وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان: أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم، لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الإكراه. والثاني: وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع العراقيون، جواز الرمي على قصد قتال المشركين ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام” (الروضة، 10-246). لذا فلدينا أربعة شروط للجواز:
• أن يؤدي ترك قتل الترس إلى هزيمة جيش المسلمين أو الدخول إلى مدن المسلمين واستباحة من فيها.
• أن يكون قتل الترس مؤدياً حتماً إلى تحقق النصر على وجه التأكيد لا على وجه التخمين.
• أن يتحقق قتلا لمسلم في كل الأحوال، فان لم يقتله المسلمون قتله العدو بعد الظفر على المسلمين فيؤدي ذلك إلى هدر دماء المسلمين واستباحة حرماتهم ومدنهم ثم يعمد العدو إلى قتل الترس.
• أن يستنفد أمير الجيش أو المهاجم كل الطرق أو الأساليب التي تؤدي إلى إنقاذ المسلم أو التحرز عن قتله.
وثمة أمر آخر هو غاية في الأهمية وهو إن هذه الأمثلة الافتراضية التي تكلم عنها علماؤنا المتقدمون كانت مبنية على الواقع والأعراف والعلاقات الدولية وأحوال الدول في ذلك الوقت ورؤية هؤلاء العلماء لهذه الأمور. وقد نجد الكثير من هذه الآراء والمسائل غريبة على رؤيتنا وأعرافنا. بل قد يستنكر البعض بعض تلك الآراء ويصفها بالسخافة والحماقة. وقد يكون سبب ذلك لأننا نحكم عليها حسب رؤيتنا ومفاهيمنا التي بنيت على أساس طبيعة الدولة المعاصرة والعلاقات الداخلية والخارجية التي وضعتها الأمم المتحدة بعد نيلها إجماع الدول في العالم. وهذا الواقع المعاصر الجديد يفرض علينا ضرورة تجديد بعض الآراء الموروثة التي قيلت اعتماداً على الأعراف التي كانت سائدة حينذاك. لكن يبدو إن علماءنا المعاصرين منشغلون بالتعامل مع مسائل أخرى. لكننا لو استعرضنا تلك الآراء واضعين نصب أعيننا طبيعة الدول وعلاقاتها الوطنية والدولية في ذلك التاريخ فسوف نجد بالتأكيد بأن تلك الآراء متسقة ومتجانسة مع واقعها، أي إنها باختصار منطقية وإن المبدأ الأخلاقي الجوهري الذي شرعه الإسلام حيال الخسائر الجانبية وحرمة استخدام الدروع البشرية من أجل تجنب قتل الأبرياء هو من أولى الأمور في الإسلام، وإن قتل المسلم أو تعريض حياته إلى الخطر هو أمر محرم قطعاً.
والآن قارن بين الصورة التقليدية، وأعني بها طبيعة الحرب وشروطها التي قررها علماؤنا المتقدمون، وبين أفعال داعش والشباب التي يقترفونها اليوم من قتل للعديد من المدنيين الأبرياء مدعين أنهم على حق في ما يفعلونه لأن أولئك المدنيين كفار، ومن استخدام حتى المدنيين المسلمين كدروع بشرية من أجل أن يفر قائهم من الأسر. وحينما تتفحص هذه الحالات المختلفة وطبيعة الحرب وقواعدها المختلفة يمكنك أن ترى بنفسك إذا ما كانوا يطبقون الشريعة الإسلامية بجوهرها وإذا ما كانوا يوافقون شرطاً أو أكثر من تلك الشروط التي وضعها علماؤنا المتقدمون لأجيالهم وللأجيال التي تليها والتي تتعلق بقتل الأبرياء أو تعريض حياتهم للخطر وتعرض حياة المسلمين أو قتلهم أو استخدام مدنيي الكفار كدروع بشرية. لقد حرم علماؤنا المتقدمون استخدام أسرى الكفار كدروع بشرية، بل على العكس فمقاصد الشريعة تخالف ذلك. فقد قال الله تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الإنسان، Cool. وقد أمر السول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالإحسان إلى الأسرى في معركة بدر فقال لهم: “استوصوا بالأسارى خيراً” (الطبراني). هذا وان موضوع الحرب والأسرى في الإسلام ستتم مناقشته في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى. أتمنى أن تكون هذه المقالة كافية في توضيح هذه المسألة المهمة.
حينما تكلم علماؤنا المتقدمون عن الجهاد وشروطه وأحكامه ناقشوا بعض الأمثلة الافتراضية الوهمية، كطريقة عملية لشحذ أذهان تلاميذهم ووضعوا قواعد أصولية تستخدم في تناول تلك الأمثلة. هذه الأمثلة تسمى “الفقه الافتراضي” ومسائله تدعى الفروع، وهي ترتبط بقواعد عامة تدعى “الأصول”. لذا فان عملية شحذ الذهن تلك هي متعلقة في الأساس بربط الفروع بأصولها الشرعية الصحيحة. ولنأتِ الآن ببعض تلك المسائل، قال الخطيب البغدادي: “لما دخل قتادة – رحمه الله – الكوفة، قال: والله الذى لا إله إلا هو ما يسألنى اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أبا حنيفة – رحمه الله – فقال: يا أبا الخطاب ما تقول فى رجل غاب عن أهله أعواما، فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول ما تقول فى صداقها؟ وقال لأصحابة الذين اجتمعوا إليه: لئن حدث بحديث ليكذبن، ولئن قال برأى نفسه ليخطئن، فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، قال: فلم تسألنى عما لم يقع؟ قال أبوحنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه”. فكان هذا هو الأساس الذي انطلق منه الفقه الافتراضي.
لقد تبنى معظم الفقهاء هذه الفكرة، ناهيك عن كل الفقهاء المعاصرين، وقد استدلوا على ذلك ببعض الحوادث التي استخدم فيها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا المبدأ حينما سُئل عن الكثير من الوقائع الافتراضية في مناسبات عديدة. ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام على السائل، بل أجاب عنها من دون أن يقول: أنت تسأل عن أشياء لم تقع! ولعل أحدى تلك المناسبات ما رواه المقداد بن عمرو الكندي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله” فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال” (متفق عليه).
ولعل من أشهر الأمثلة ما يسميه فقهاؤنا (التترس). وهو مصطلح مطابق لما يطلق عليه الآن (الدروع البشرية)، وهو أن يقع مسلمون في أسر الكفار الذين هم في حالة حرب مع المسلمين، ويعلم كلا الطرفين بذلك، فيضعون الأسرى في مقدمة الجيش لكي يكف المسلمون عن رمي الجيش لأن ثمة مسلمين أبرياء سيتعرضون للقتل أولاً. وفي عالمنا المعاصر تطبق نفس الفكرة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون المدنيون من الأعداء هم الدرع.
وقد استخدم تنظيم داعش هذا المبدأ إبان سقوط الموصل على سبيل المثال. وبالمثل، ففي الحروب المعاصرة حينما يتموضع المسلحون عمداً وسط المدنيين ويطلقون الصواريخ من مناطق مدنية فهم يعلمون بأنهم سيتعرضون لهجمات مضادة. وعندما تضرب هذه الصواريخ أو القنابل لضرب مناطق مدنية تحتوي على أهداف معينة فان الهدف ستتم معالجته ولكن مع خسائر جسيمة في المدنيين، يشار إليها غالباً ببرود بوصفها (خسائر جانبية) في عالمنا اليوم. فكل هذه الممارسات، من استخدام جنود العدو أو المدنيين الأبرياء كدروع بشرية، أو تموضع المسلحين وسط مناطق مدنية مع علمهم المسبق بأن العدو قد يهاجم هذه الوحدات مسبباً خسائر مدنية جسيمة، كلها تعتبر حراماً لأن حفظ أرواح المدنيين له الأولوية مقارنة بالقضاء على الأعداء، والحرب في الإسلام فيها مباديء أخلاقية مخصوصة. وينطبق المبدأ ذاته على أيضاً على الذين يضربون أهدافاً لمسلحين متموضعة بين المدنيين وهم يعلمون يقيناً بأنهم سيسببون خسائر جسيمة بين المدنيين حتى لو دمروا أهدافهم المطلوبة كذلك. الحفاظ على أرواح الأبرياء يعتبر أولوية وهو ما يجعل هذه الممارسات حراماً.
وتعمد تنظيمات مثل داعش والقاعدة والشباب إلى توسيع هذه الفكرة لتكون مظلة لممارساتهم. فهم يقتلون المدنيين عمداً حينما يستهدفون عدوهم المزعوم، وهم يبررون ذلك العمل الخاطيء بادعائهم إن ذلك يقع تحت مسمى (التترس). وأعتقد إن أفضل طريقة للتعرف على هذا الموضوع هي قراءة ما كتبه علماؤنا المتقدمون المبرزون عن هذه المسألة وإسقاطاتها الشائكة على الواقع في أوقات الحرب. يقول ابن تيمية في كتابه (مجموع الفتاوى): ” وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم” (28/537-546، 20/52). وقال الإمام الغزالي: “ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية” (المستصفى 1/176-177).
ولم يجز كثير من العلماء الآخرين قتل الترس الذي يستخدمة العدو وقالوا بأن هذا حرام. ومن هؤلاء الإمام الأورزاعي والليث بن سعد والإمام مالك وكثير غيرهم. وقد استدلوا بالأدلة الآتية:
• قوله تعالى: ” وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” الفتح-25). فنستدل من الآية السابقة على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ تستحيل أذيته إلا بأذية المؤمن.
• حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَزوال الدنيا أهو على الله من سفك دم مسلم بغير حق” (سنن النسائي، 3987).
• قال الإمام ابن القاسم، سمعت مالكاً وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم، أنرمي في مراكبهم النار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك لقوله تعالى: ” وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” (القرطبي، 16-286).
• وقال الليث بن سعد: “ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق” (القرطبي، 16-286).
ولنتفحص الآن ما قاله الذين يجيزون قتل الترس المسلم وما هي شروطه التي وضعوها لفعل ذلك. قال الإمام القرطبي: “قلت: قد يجوز قتل الترس ولا يكون فيه اختلاف ان شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية” (القرطبي، 16-286). وقال العز بن عبد السلام: “المثال التاسع والثلاثون: قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة، إلا إذا تترس بهم الكفار، وخيف من ذلك اصطلام المسلمين، ففي جواز قتلهم خلاف، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من قتل جميع المسلمين” (قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1-95). وقال الإمام النووي: “وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان: أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم، لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الإكراه. والثاني: وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع العراقيون، جواز الرمي على قصد قتال المشركين ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام” (الروضة، 10-246). لذا فلدينا أربعة شروط للجواز:
• أن يؤدي ترك قتل الترس إلى هزيمة جيش المسلمين أو الدخول إلى مدن المسلمين واستباحة من فيها.
• أن يكون قتل الترس مؤدياً حتماً إلى تحقق النصر على وجه التأكيد لا على وجه التخمين.
• أن يتحقق قتلا لمسلم في كل الأحوال، فان لم يقتله المسلمون قتله العدو بعد الظفر على المسلمين فيؤدي ذلك إلى هدر دماء المسلمين واستباحة حرماتهم ومدنهم ثم يعمد العدو إلى قتل الترس.
• أن يستنفد أمير الجيش أو المهاجم كل الطرق أو الأساليب التي تؤدي إلى إنقاذ المسلم أو التحرز عن قتله.
وثمة أمر آخر هو غاية في الأهمية وهو إن هذه الأمثلة الافتراضية التي تكلم عنها علماؤنا المتقدمون كانت مبنية على الواقع والأعراف والعلاقات الدولية وأحوال الدول في ذلك الوقت ورؤية هؤلاء العلماء لهذه الأمور. وقد نجد الكثير من هذه الآراء والمسائل غريبة على رؤيتنا وأعرافنا. بل قد يستنكر البعض بعض تلك الآراء ويصفها بالسخافة والحماقة. وقد يكون سبب ذلك لأننا نحكم عليها حسب رؤيتنا ومفاهيمنا التي بنيت على أساس طبيعة الدولة المعاصرة والعلاقات الداخلية والخارجية التي وضعتها الأمم المتحدة بعد نيلها إجماع الدول في العالم. وهذا الواقع المعاصر الجديد يفرض علينا ضرورة تجديد بعض الآراء الموروثة التي قيلت اعتماداً على الأعراف التي كانت سائدة حينذاك. لكن يبدو إن علماءنا المعاصرين منشغلون بالتعامل مع مسائل أخرى. لكننا لو استعرضنا تلك الآراء واضعين نصب أعيننا طبيعة الدول وعلاقاتها الوطنية والدولية في ذلك التاريخ فسوف نجد بالتأكيد بأن تلك الآراء متسقة ومتجانسة مع واقعها، أي إنها باختصار منطقية وإن المبدأ الأخلاقي الجوهري الذي شرعه الإسلام حيال الخسائر الجانبية وحرمة استخدام الدروع البشرية من أجل تجنب قتل الأبرياء هو من أولى الأمور في الإسلام، وإن قتل المسلم أو تعريض حياته إلى الخطر هو أمر محرم قطعاً.
والآن قارن بين الصورة التقليدية، وأعني بها طبيعة الحرب وشروطها التي قررها علماؤنا المتقدمون، وبين أفعال داعش والشباب التي يقترفونها اليوم من قتل للعديد من المدنيين الأبرياء مدعين أنهم على حق في ما يفعلونه لأن أولئك المدنيين كفار، ومن استخدام حتى المدنيين المسلمين كدروع بشرية من أجل أن يفر قائهم من الأسر. وحينما تتفحص هذه الحالات المختلفة وطبيعة الحرب وقواعدها المختلفة يمكنك أن ترى بنفسك إذا ما كانوا يطبقون الشريعة الإسلامية بجوهرها وإذا ما كانوا يوافقون شرطاً أو أكثر من تلك الشروط التي وضعها علماؤنا المتقدمون لأجيالهم وللأجيال التي تليها والتي تتعلق بقتل الأبرياء أو تعريض حياتهم للخطر وتعرض حياة المسلمين أو قتلهم أو استخدام مدنيي الكفار كدروع بشرية. لقد حرم علماؤنا المتقدمون استخدام أسرى الكفار كدروع بشرية، بل على العكس فمقاصد الشريعة تخالف ذلك. فقد قال الله تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الإنسان، Cool. وقد أمر السول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالإحسان إلى الأسرى في معركة بدر فقال لهم: “استوصوا بالأسارى خيراً” (الطبراني). هذا وان موضوع الحرب والأسرى في الإسلام ستتم مناقشته في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى. أتمنى أن تكون هذه المقالة كافية في توضيح هذه المسألة المهمة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى