هدى النبى صل الله عليه وسلم فيمن حرم أمته عنه
الجمعة مارس 11, 2022 12:27 am
يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ * قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]
ثبت فى ((الصحيحين))، أنه صلى الله عليه وسلم شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: ((لَنْ أَعُودَ لَهُ)). وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى ((سنن النسائى)): عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى ((صحيح مسلم)): عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله أسوة حسنة.
وفى جامع الترمذى: عن عائشة رضى الله عنها، قالت: آلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن نسائه وحرَّم فَجَعَلَ الحَرَامَ حَلاَلاً، وجَعَلَ فى اليمينِ كفارةً. هكذا رواه مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، ورواه على بن مُسهر، وغيره، عن الشعبى، عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلاً وهو أصح، انتهى كلام أبى عيسى.
وقولُها: جعل الحرامَ حلالاً، أى: جعل الشىء الذى حرَّمه وهو العسلُ، أو الجاريةُ، حلالاً بعد تحريمه إياه.
وقال الليثُ بن سعد: عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب، قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر رضى الله عنهم، عمن قال لامرأته: أنت علىَّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين. وقال عبد الرزاق، عن ابن عُيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال فى التحريم: هى يمينٌ يكفِّرها.
قال ابنُ حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعائشة أمِّ المؤمنين. وقال الحجاج بن منهال: حدثنا جريرُ بن حازم، قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر رضى الله عنه عن الحرام، أطلاق هو؟ قال: لا، أوليس قد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه، ولم يحرِّمها عليه.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، وأيوب السختيانى، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هى يمين، يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا المُقَدَّمىُّ: حدثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: الحرام يمين.
وفى ((صحيح البخارى)): عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقول: إذا حرَّم امرأته، ليس بشىء، وقال: لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة فقيل: هذا رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين، ولهذا احتجَّ بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثانى أظهر، وهذه المسألة فيها عشرون مذهباً للناس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذها، والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه.
أحدها: أن التحريمَ لغو لا شىء فيه، لا فى الزوجة، ولا فى غيرها، لا طلاقَ ولا إيلاءَ، ولا يمينَ ولا ظِهَار، روى وكيع، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن مسروق: ما أبالى حرَّمتُ امرأتى أو قصعةً من ثريد. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن صالح بن مسلم، عن الشعبى، أنه قال فى تحريم المرأة: لهن أهونُ على من نعلى وذُكِرَ عن ابن جريج، أخبرنى عبد الكريم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: ما أبالى حرَّمُتها يعنى امرأته، أو حرَّمتُ ماء النهر. وقال قتادة: سأل رجلٌ حميدَ بن عبد الرحمن الحميرى، عن ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإلى رَبَّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، هذا قول أهلِ الظاهر كلِّهم.
المذهب الثانى: أن التحريم فى الزوجة طلاق ثلاث. قال ابن حزم: قاله على بن أبى طالب، وزيدُ بن ثَابت، وابنُ عمر، وهو قول الحسن، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى، وروى عن الحكم بن عتيبة. قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر، ما رواه هو من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى هُبيرة، عن قَبيصة، أنه سأل زيدَ بن ثابت وابنَ عمر عمن قال لامرأته. أنت علىّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما على، فقد روى أبو محمد بن حزم، من طريق يحيى القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: يقول رجال فى الحرام: هى حرام حتى تنكِح زوجاً غيره. ولا واللَّه ما قال ذلك على، وإنما قال على: ما أنا بمحلِّها ولا بمحرِّمها عليك، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر. وأما الحسن، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه، أنه قال: كُلُّ حلال على حرام، فهو يمين. ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث. وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد، وحكاه فى: أنت على حرام، وهو وهم ظاهر، فإنهم فرَّقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث، ولا أعلم أحداً قال: إنه ثلاث بكل حال.
المذهب الثالث: أنه ثلاث فى حق المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخول بها، وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق، فواحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدَّم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداءً لم يقبل، وإن حِرَّم أمته أو طعامه أو متاعه، فليس بشىء، وهذا مذهب مالك.
المذهب الرابع: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقاً، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئاً فهو إيلاء فيه حكمُ الإيلاء. فإن نوى الكذبَ، صُدِّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً، ويكون فى القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة الأمةِ والطعام وغيره، فهو يمين فيه كفارتها، وهذا مذهب أبى حنيفة.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاقَ، كان طلاقاً، ويقعُ ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدةً، وإن نوى الظهارَ، كان ظهاراً، وإن نَوَى اليمينَ، كان يميناً، وإن نوى تحريمَ عينها مِن غير طلاق ولا ظِهار، فعليه كفارةُ يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، ففيه قولان. أحدهما: لا يلزمُه شىء. والثانى: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين، وإن نوى الظهارَ منها، لم يصح، ولم يلزمه شىء، وقيل: بل يلزمه كفارةُ يمين، وإن ينو شيئاً، ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمُه شىء والثانى: عليه كفارةُ يمين. وإن صادفَ غيرَ الزوجة والأمة لم يحرم، ولم يلزمه به شىء، وهذا مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس: أنه ظِهار بإطلاقه، نواه أو لم ينوِه، إلا أن يَصرفَه بالنية إلى الطلاق، أو اليمين، فينصرِف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهبِ أحمد. وعنه رواية ثانية: أنه بإطلاقه يمين إلا أن يَصْرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطَّلاق، فينصَرِفُ إلى ما نواهُ، وعنه رواية أخرى ثالثة: أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه، وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين فى ((فروعه))، أنه طلاق بائن.،ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاق. فعنه فيه روايتان. إحداهما: أنه طلاق، فعلى هذا هل تلزمُه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين، والثانية: أنه ظهار أيضاً كما لو قال: أنتِ علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاق، هذا تلخيصُ مذهبه.
المذهب السابع: أنه إن نوى به ثلاثاً، فهى ثلاثٌ، وإن نوى به واحدة، فهى واحدة بائنة، وإن نوى به يميناً، فهى يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، فهى كذبة لا شىءَ فيها، وهذا مذهبُ سفيان الثورى، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن: أنه طلقةٌ واحدة بائنة بكل حال، وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع: أنه إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة، أو لم ينوِ شيئاً، فواحدة بائنة، وهذا مذهبُ إبراهيم النخعى، حكاه عنه أبو محمد بن حزم.
المذهب العاشر: أنه طلقة رجعية، حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى، عن عمر بن الخطاب.
المذهب الحادى عشر: أنها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء ظهاراً ولا طلاقاً ولا يميناً، بل ألزموه موجب تحريمه. قال ابن حزم: صح هذا عن على بن أبى طالب، ورجالٍ من الصحابة لم يُسمَّوْا، وعن أبى هريرة. وصح عن الحسن، وخِلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، أنهم أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر: التوقفُ فى ذلك لا يُحرِّمها المفتى على الزوج، ولا يحلِّلها له، كما رواه الشعبى عن على أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرِّمها عليك إن شئتَ فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر: الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً وبين أن يُخرجه مخرجَ اليمين، فالأول: ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاقَ، ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ. والثانى: يمين يلزمه به كفارةُ يمين، فإذا قال: أنت علىَّ حرام، أو إذا دخل رمضان، فأنتِ علىَّ حرام، فظهار. وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلانا، فامرأتى علىَّ حرام، فيمين مكفرة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه أصولُ المذاهب فى هذه المسألة وتتفرَّعُ إلى أكثر من عشرين مذهباً.
فأما من قال: التحريمُ كلُّه لغو لا شىء فيه، فاحتجوُّا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً ولا تحليلاً، وإنما جعل له تعاطى الأسباب التى تَحِلُّ بها العينُ وتحرم، كالطلاق والنكاحِ، والبيعِ والعتقِ، وأما مجردُ قوله: حرَّمت كذا وهو علىَّ حرام، فليس إليه. قال تعالى:{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتِكُم الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ} [النحل: 116] وقال تعالى: {يَأيُّهَا النَّبِىُّ لمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، فَإذا كَانَ سبحانه لم يجعلْ لرسوله أن يُحِّرمَ ما أحل الله له، فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟
قالوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ عَمَلٍ لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ)) وهذا التحريمُ كذلك، فيكون رداً باطلاً.
قالوا: ولأنه لا فرق بين تحريمِ الحلال، وتحليلِ الحرام، وكما أن هذا الثانى لغو لا أثر له، فكذلك الأولُ.
قالوا: ولا فرق بين قوله لامرأته: أنت علىَّ حرام، وبين قولهِ لِطعامه هو علىَّ حرام.
قالوا: وقوله: أنتِ علىَّ حرام، إما أن يُريد به إنشاء تحريمها، أو الإخبارَ عنها بأنها حرام، وإنشاء تحريم محال، فإنه ليس إليه، إنما هو إلى من أحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرامَ، وشرع الأحكام، وإن أراد الإخبار، فهو كذب، فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وكلاهما لغو من القول.
قالوا: ونظرنا فيما سوى هذا القولِ، فرأيناها أقوالاً مضطربة متعارضة يردُّ بعضُها بعضاً، فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من الله ورسوله، فنكون قد ارتكبنا أمرين: تحريمَها على الأول، وإحلالها لغيره، والأصلُ بقاءُ النكاح حتي تُجمع الأمة، أو يأتىَ برهان من اللَّهِ ورسوله على زواله، فيتعيَّن القولُ به، فهذا حجة هذا الفريق.
وأما من قال: إنه ثلاث بكل حال، إن ثبت هذا عنه، فيحتجُّ له بأن التحريمَ جُعِلَ كناية فى الطلاق، وأعلى أنواعه تحريمُ الثلاث، فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطاً للأبضاع.
وأيضاً فإنَّا تيقَّنَّا التحريمَ بذلك، وشككنا: هل هو تحريمٌ تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجديدُ العقد كالخُلع، أو لا يُزيله إلا أوجٌ وإصابة كتحريمِ الثلاث؟ وهذا متيقَّن، وما دونه مشكوكٌ فيه، فلا يَحلُّ بالشك.
قالوا: ولأن الصحابة أَفْنَوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلاث. قال أحمد: هو عن على وابنِ عمر صحيح، ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم، فإذا صرَّحَ بالغاية، فهى أولى أن تكونَ ثلاثاً، ولأن المحرم لا يسبقُ إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلاث، فكأنَّ هذا اللفظَ صارَ حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلاث.
وأيضاً فالواحدةُ لا تحرمُ إلا بعوض، أو قبلَ الدخول، أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من يراه، فالتحريمُ بها مقيَّد، فإذا أطلق التحريمُ، ولم يُقيَّيد، انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل الدخول أو بعده، وبعوض وغيره وهو الثلاث.
وأما من جعله ثلاثاً فى حق المدخول بها، وواحدة بائنة فى حقِّ غيرها، فحجتُه أن المدخولَ بها لا يُحَرِّمُها إلا الثلاث، وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة، فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملِكُ إبانتها بواحدة بائنة، فأجابوا بما لا يُجدى عليهم شيئاً، وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيَّدة، بخلاف التحريم، فإن الإبانة به مطلقة، ولا يكونُ ذلك إلا بالثلاثِ، وهذا القدرُ لا يُخلِّصُهم من هذا الإلزام، فإن إبانة التحريمِ أعظمُ تقييداً من قوله: أنتِ طالق طلقة بائنة، فإن غايةَ البائنة أن تحرمها، وهذا قد صرَّح بالتحريم، فهو أولى بالإبانة من قوله: أنت طالق طلقةً بائنة.
وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقِّ المدخول بها وغيرها، فمأخذُ هذا القول أنها لا تُفيد بوضعها، وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ، وهو يَمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض، كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة، فإن الرجعة حقٌّ له، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها، ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه، ولأن العِوض مستحق له، لا عليه، فإذا أسقطه وأبانها، فله ذلك.
وأما مَن قال: إنها واحدة رجعية، فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطاعِ الملك وهو يصدُق بالمتيقَّنِ منه وهو الواحدةُ، وما زاد عليها، فلا تعُّرضَ فى اللفظ له، فلا يسوغُ إثباتُه بغير موجب. وإذا أمكن إعمالُ اللفظ فى الواحدة، فقد وفى بموجبه، فالزيادةُ عليه لا موجبَ لها. قالوا: وهذا ظاهر جداً على أصل من يجعل الرجعية محرمة، وحينئذ فنقول: التحريمُ أعمُّ مِن تحريم رجعية، أو تحريم بائن، فالدالُّ على الأعم لا يدُل على الأخص، وإن شئتَ قلت: الأعمُّ لا يستلزِمُ الأخصَّ أو ليس الأخصُّ مِن لوازم الأعم، أو الأعم لا يُنتج الأخصَّ.
وأما من قال: يُسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي، أو محرَّم، أو يمين، فيكون ما أراد مِن ذلك، فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمِلٌ للطلاق والظهار والإيلاء، فإذا صُرِفَ إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له، وصرفه إليه بنيته، فينصرفُ إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصُرُ عنه، وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك، عتقت، وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة، واليمين من الأمة، لزمه ما نواه، قالوا: وأما إذا نوى تحريمَ عينها، لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين اتباعاً لظاهر القرآن، وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى ((صحيحه)): إذا حرّم الرجلُ امرأته فهى يمين يكفِّرها، وتلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُم فى رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظِّهار: إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ الظهار، وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه الله، فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلِّق عقيبَه على الفور. قالوا: ولأن اللفظ يحتمِلُ الإنشاء والإخبار، فإن أراد الإخبار، فقد استعمله فيما هو صالحٌ له، فيُقبل منه. وإن أراد الإنشاء سُئِلَ عن السبب الذى حرَّمها به. فإن قال: أردت ثلاثاً أو واحدة، أو اثنتين، قُبِلَ منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته، وإن نوى الظهار، كان كذلك، لأنه صرَّح بموجب الظهار، لأن قوله: أنتِ علىَّ كظهر أمى موجبُه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم، كان ظهاراً، واحتمالُه للطلاق بالنية لا يزيدُ على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمَها مطلقاً، فهو يمين مكفرة، لأنه امتناع منها بالتحريم، فهو كامتناعه منها باليمين.
وأما من قال: إنه ظهار إلا أن ينوىَ به طلاقاً، فمأخذُ قوله: أن اللفظ موضوعٌ للتحريم، فهو منكر من القول وزور، فإن العبدَ ليس إليه التحريمُ والتحليل، وإنما إليه إنشاء الأسباب التى يرتب عليها ذلك، فإذا حرَّم ما أحل الله له، فقد قال المُنْكر والزُّورَ، فيكون كقوله: أنتِ علىّ كظهر أمى، بل هذا أولى أن يكون ظهاراً، لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرَّح بتحريمها، فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار، فهو أولى أن يكون ظهاراً. قالوا: وإنما جعلناه طلاقاً بالنية، فصرفناه إليه بها، لأنه يصلُح كنايةً فى الطلاق فينصرِف إليه بالنية بخلاف إطلاقه، فإنه ينصرِف إلى الظهار، فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً، إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه، يمين مكفرة، فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين، نوى ما يصلُح له اللفظ، فقُبِلَ منه.
وأما من قال: إنه ظهار وإن نوى به الطلاقَ، أو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ فمأخذُ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً، ولا يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلاق كما لو قال: أَنتِ علىَّ كظهر أمى ونوى به الطلاق، أو قال: أعنى به الطلاق، فإنه لا يخرُج بذلك عن الظهار، ويصيرُ طلاقاً عِند الأكثرين: إلا على قول شاذ لا يُلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه فى الجاهلية مِن جعل الظهار طلاقاً، ونسخ الإسلام لذلك، وإبطلاله، فإذا نوى به الطلاقَ، فقد نوى ما أبطله الله ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار، وقد نوى مالا يحتمِلُه شرعاً، فلا تؤثِّر نيته فى تغيير ما استقرَّ عليه حكمُ الله الذى حكم به بينَ عباده، ثم جرى أحمدُ وأصحابُه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك، والحلف به كالطلاق والعتاق وفرَّق شيخ الإسلام بين البابين على أصله فى التفريق بين الإيقاع والحلف، كما فرَّق الشافعى وأحمد رحمهما الله، ومَنْ وافقهما بين البابين فى النذر بينَ أن يحلف به، فيكون يميناً مكفرة، وبين أن ينجزه أو يعلِّقه بشرط يقصد وقوعه، فيكون نذراً لازم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى الأيمان إن شاء الله تعالى. قال: فيلزمهم على هذا أن يفرِّقوا بين إنشاء التحريم، وبين الحلف، فيكون فى الحلف به حالفاً يلزمه كفارة يمين، وفى تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهراً يلزمُه كفارةُ الظهار، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً.
وأما من قال: إنه يمينٌ مكفرة بكلِّ حال، فمأخذ قوله: أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمينٌ تُكفَّر بالنصِّ، والمعنى، وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: {يَأَيُّها النَّبىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ولابد أن يكون تحريم الحلال داخلاً تحت هذا الفرض، لأنه سبُبُه، وتخصيصُ محل السبب من جملة العام ممتنع قطعاً، إذ هو المقصودُ بالبيان أولاً، فلو خُصَّ لخلا سببُ الحكم عن البيان، وهو ممتنع، وهذا استدلال فى غاية القوة، فسألتُ عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: نَعَم التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار، ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ اليمين باللَّه. قال: وهذا معنى قولِ ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم، إن التحرِيمَ يمين تكفر، فهذا تحريرُ المذاهب فى هذه المسألة نقلاً،وتقريرها استدلالاً، ولا يخفى- على من آثر العِلم والإنصاف، وجانب التعصُّب ونصرة ما بنى عليه من الأقوال- الراجحُ مِن المرجوح وباللَّه المستعان.
وقد تبين بما ذكرنا، أن من حرَّم شيئاً غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته يَحْرُمْ عليه بذلك، وعليه كفارةُ يمين، وفى هذا خلاف فى ثلاثة مواضع.
أحدها: أنه لا يحرم، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يحرم تحريماً مقيداً تُزيله الكفارة، كما إذا ظاهرَ من امرأته، فإنه لا يَحِلُّ له وطؤها حتى يُكفِّر، ولأن الله سبحانه سمَّى الكفارة فى ذلك تَحِلَّةً، وهى ما يُوجب الحِلَّ، فدل علي ثبوت التحريم قبلها، ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، ولأنه تحريمٌ لما أبيح له، فيحرم بتحريمه كما لو حرَّم زوجته.
ومنازعوه يقولون: إنما سُميت الكفارة تحِلَّه مِن الحَل الذى هو ضِدُّ العقدِ لا مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم، فهى تَحُلُّ اليمين بعد عقدها، وأما قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم:1]، فالمرادُ تحريمُ الأمِة أو العسل، ومنعُ نفسه منه، وذلك يُسمى تحريماً، فهو تحريم بالقول، لا إثبات للتحريم شرعاً.
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ، أو بقوله: أنتِ علىَّ حرام، فلو صحَّ هذا القياس، لوجب تقديمُ التكفير على الحنث قياساً على الظهارِ، إذ كان فى معناه، وعندهم لا يجوزُ التكفيرُ إلا بعد الحنث، فعلى قولِهم: يلزم أحد أمرين، ولا بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض الله تحِلَّة اليمين، فيلزم كون المحرم مفروضاً، أو من ضرورة المفروض، لأنه لا يَصِلُ إلى التَّحِلَّةِ إلا بفعل المحلوف عليه، أو أنه لا سبيلَ له إلى فعله حلالاً، لأنه لا يجوز تقديمُ الكفارة، فيستفيدُ بها الحل، وإقدامه عليه وهو حرامٌ ممتنع، هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين، وبعدُ، فلها غور، وفيها دِقة وغموض، فإن من حرَّم شيئاً، فهو بمنزلة من حَلَفَ باللَّه على تركه، ولو حلف على تركه، لم يَجز له هتكُ حرمة المحلوفِ به بفعله إلا بالتزام الكفارة، فإذا التزمها، جاز له الإقدامُ على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على تركِ الكفارة، فإن الشارع لا يُبيح له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه، ويأذن له فيه، وإنما يأذنُ له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة، فيكون إذنه له فيه، وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رُخصةً من الله له، ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من الكفارة، فإذا لم يلتزِمْه بقى المنعُ الذى عقدَه على نفسه إصراً عليه، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه، والتزم حُكمه، وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها، ولا يجوز الحنثُ، فوسَّع الله على هذه الأمة، وجوَّز لها الحنث بشرط الكفارة، فإذا لم يُكفِّرْ لا قبلُ ولا بعدُ لم يُوسَّع له فى الحنث، فهذا معنى قوله: إنه يحرم حتى يكفِّر.،وليس هذا من مفردات أبى حنيفة، بل هو أحدُ القولين فى مذهب أحمد يُوضحه: أن هذا التحريمَ والحلف قد تعلَّق به مانعان: منع من نفسه لفعله، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة، فلو لم يُحرِّمه تحريمه أو يمينه، لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثره، بل كان غايةُ الأمر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقاً أو صوماً لا يتوقَّفُ عليه حلُّ المحلوف عليه ولا تحريمه البته، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق، فلا يكونُ للكفارة أثر البته، لا فى المنع منه، ولا فى الإذن، وهذا لا يخفى فسادُه.،وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيثُ لا يجوزُ تقديمُ الكفارة، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير، فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه، وإنما يكونُ التحريمُ ثابتاً إذا لم يلتزم الكفارة، ومع التزامها لا يستمرُّ التحريم.
الثانى: أن يلزمه كفارة بالتحريم، وهو بمنزلة اليمين، وهذا قولُ مَنْ سميناه من الصحابة، وقولُ فقهاء الرأى والحديث إلا الشافعىَّ ومالكاً، فإنهما قالا: لا كفارة عليه بذلك.
والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها، فإن الله سبحانه ذكر تَحِلَّةَ الأيمانِ عَقبَ قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلال قد فُرِضَ فيه تحلَّةُ الأيمان، إما مختصاً به، وإما شاملاً له ولغيره، فلا يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة فى السياق عن حكمِ الكفارة، ويُعلَّق بغيره، وهذا ظاهرُ الامتناع.
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين، بل أقوى، فإن اليمينَ إن تضمن هتكَ حُرمة اسمه سبحانه، فالتحريمُ تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع الشىء حلالاً فحرَّمه المكلف، كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه، ونحن نقولُ: لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة الاسم، ولا التحريمُ هتكَ حرمة الشرع، كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء، وهو تعليلٌ فاسد جداً، فإن الحِنثَ إما جائز، وإما واجب أو مستحب، وما جوَّز الله لأحد البتة أن يَهْتِكَ حُرمة اسمه، وقد شرع لِعباده الحِنث مع الكفارة، وأخبره النبىُّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها كفَّر عن يمينه، وأتى المحلوفَ عليه، ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح فى شريعة قطُّ، وإنما الكفَّارة كما سماها الله تعالى تحلَّة وهى تفعلة من الحل، فهى تَحُلُّ ما عقد به اليمين ليس إلا، وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم، وظهر سِرُّ قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُم تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 2] عقيب قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1].
الثالث: أنه لا فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعىَّ وحدَه، أوجب فى تحريم الأمة خاصة كفارةَ يمين، إذ التحريمُ له تأثير فى الأبضاع عنده دون غيرها.
ثبت فى ((الصحيحين))، أنه صلى الله عليه وسلم شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: ((لَنْ أَعُودَ لَهُ)). وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى ((سنن النسائى)): عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى ((صحيح مسلم)): عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله أسوة حسنة.
وفى جامع الترمذى: عن عائشة رضى الله عنها، قالت: آلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن نسائه وحرَّم فَجَعَلَ الحَرَامَ حَلاَلاً، وجَعَلَ فى اليمينِ كفارةً. هكذا رواه مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، ورواه على بن مُسهر، وغيره، عن الشعبى، عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلاً وهو أصح، انتهى كلام أبى عيسى.
وقولُها: جعل الحرامَ حلالاً، أى: جعل الشىء الذى حرَّمه وهو العسلُ، أو الجاريةُ، حلالاً بعد تحريمه إياه.
وقال الليثُ بن سعد: عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب، قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر رضى الله عنهم، عمن قال لامرأته: أنت علىَّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين. وقال عبد الرزاق، عن ابن عُيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال فى التحريم: هى يمينٌ يكفِّرها.
قال ابنُ حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعائشة أمِّ المؤمنين. وقال الحجاج بن منهال: حدثنا جريرُ بن حازم، قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر رضى الله عنه عن الحرام، أطلاق هو؟ قال: لا، أوليس قد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه، ولم يحرِّمها عليه.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، وأيوب السختيانى، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هى يمين، يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا المُقَدَّمىُّ: حدثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: الحرام يمين.
وفى ((صحيح البخارى)): عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقول: إذا حرَّم امرأته، ليس بشىء، وقال: لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة فقيل: هذا رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين، ولهذا احتجَّ بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثانى أظهر، وهذه المسألة فيها عشرون مذهباً للناس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذها، والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه.
أحدها: أن التحريمَ لغو لا شىء فيه، لا فى الزوجة، ولا فى غيرها، لا طلاقَ ولا إيلاءَ، ولا يمينَ ولا ظِهَار، روى وكيع، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن مسروق: ما أبالى حرَّمتُ امرأتى أو قصعةً من ثريد. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن صالح بن مسلم، عن الشعبى، أنه قال فى تحريم المرأة: لهن أهونُ على من نعلى وذُكِرَ عن ابن جريج، أخبرنى عبد الكريم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: ما أبالى حرَّمُتها يعنى امرأته، أو حرَّمتُ ماء النهر. وقال قتادة: سأل رجلٌ حميدَ بن عبد الرحمن الحميرى، عن ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإلى رَبَّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، هذا قول أهلِ الظاهر كلِّهم.
المذهب الثانى: أن التحريم فى الزوجة طلاق ثلاث. قال ابن حزم: قاله على بن أبى طالب، وزيدُ بن ثَابت، وابنُ عمر، وهو قول الحسن، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى، وروى عن الحكم بن عتيبة. قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر، ما رواه هو من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى هُبيرة، عن قَبيصة، أنه سأل زيدَ بن ثابت وابنَ عمر عمن قال لامرأته. أنت علىّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما على، فقد روى أبو محمد بن حزم، من طريق يحيى القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: يقول رجال فى الحرام: هى حرام حتى تنكِح زوجاً غيره. ولا واللَّه ما قال ذلك على، وإنما قال على: ما أنا بمحلِّها ولا بمحرِّمها عليك، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر. وأما الحسن، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه، أنه قال: كُلُّ حلال على حرام، فهو يمين. ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث. وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد، وحكاه فى: أنت على حرام، وهو وهم ظاهر، فإنهم فرَّقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث، ولا أعلم أحداً قال: إنه ثلاث بكل حال.
المذهب الثالث: أنه ثلاث فى حق المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخول بها، وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق، فواحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدَّم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداءً لم يقبل، وإن حِرَّم أمته أو طعامه أو متاعه، فليس بشىء، وهذا مذهب مالك.
المذهب الرابع: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقاً، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئاً فهو إيلاء فيه حكمُ الإيلاء. فإن نوى الكذبَ، صُدِّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً، ويكون فى القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة الأمةِ والطعام وغيره، فهو يمين فيه كفارتها، وهذا مذهب أبى حنيفة.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاقَ، كان طلاقاً، ويقعُ ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدةً، وإن نوى الظهارَ، كان ظهاراً، وإن نَوَى اليمينَ، كان يميناً، وإن نوى تحريمَ عينها مِن غير طلاق ولا ظِهار، فعليه كفارةُ يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، ففيه قولان. أحدهما: لا يلزمُه شىء. والثانى: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين، وإن نوى الظهارَ منها، لم يصح، ولم يلزمه شىء، وقيل: بل يلزمه كفارةُ يمين، وإن ينو شيئاً، ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمُه شىء والثانى: عليه كفارةُ يمين. وإن صادفَ غيرَ الزوجة والأمة لم يحرم، ولم يلزمه به شىء، وهذا مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس: أنه ظِهار بإطلاقه، نواه أو لم ينوِه، إلا أن يَصرفَه بالنية إلى الطلاق، أو اليمين، فينصرِف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهبِ أحمد. وعنه رواية ثانية: أنه بإطلاقه يمين إلا أن يَصْرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطَّلاق، فينصَرِفُ إلى ما نواهُ، وعنه رواية أخرى ثالثة: أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه، وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين فى ((فروعه))، أنه طلاق بائن.،ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاق. فعنه فيه روايتان. إحداهما: أنه طلاق، فعلى هذا هل تلزمُه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين، والثانية: أنه ظهار أيضاً كما لو قال: أنتِ علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاق، هذا تلخيصُ مذهبه.
المذهب السابع: أنه إن نوى به ثلاثاً، فهى ثلاثٌ، وإن نوى به واحدة، فهى واحدة بائنة، وإن نوى به يميناً، فهى يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، فهى كذبة لا شىءَ فيها، وهذا مذهبُ سفيان الثورى، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن: أنه طلقةٌ واحدة بائنة بكل حال، وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع: أنه إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة، أو لم ينوِ شيئاً، فواحدة بائنة، وهذا مذهبُ إبراهيم النخعى، حكاه عنه أبو محمد بن حزم.
المذهب العاشر: أنه طلقة رجعية، حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى، عن عمر بن الخطاب.
المذهب الحادى عشر: أنها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء ظهاراً ولا طلاقاً ولا يميناً، بل ألزموه موجب تحريمه. قال ابن حزم: صح هذا عن على بن أبى طالب، ورجالٍ من الصحابة لم يُسمَّوْا، وعن أبى هريرة. وصح عن الحسن، وخِلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، أنهم أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر: التوقفُ فى ذلك لا يُحرِّمها المفتى على الزوج، ولا يحلِّلها له، كما رواه الشعبى عن على أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرِّمها عليك إن شئتَ فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر: الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً وبين أن يُخرجه مخرجَ اليمين، فالأول: ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاقَ، ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ. والثانى: يمين يلزمه به كفارةُ يمين، فإذا قال: أنت علىَّ حرام، أو إذا دخل رمضان، فأنتِ علىَّ حرام، فظهار. وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلانا، فامرأتى علىَّ حرام، فيمين مكفرة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه أصولُ المذاهب فى هذه المسألة وتتفرَّعُ إلى أكثر من عشرين مذهباً.
فأما من قال: التحريمُ كلُّه لغو لا شىء فيه، فاحتجوُّا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً ولا تحليلاً، وإنما جعل له تعاطى الأسباب التى تَحِلُّ بها العينُ وتحرم، كالطلاق والنكاحِ، والبيعِ والعتقِ، وأما مجردُ قوله: حرَّمت كذا وهو علىَّ حرام، فليس إليه. قال تعالى:{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتِكُم الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ} [النحل: 116] وقال تعالى: {يَأيُّهَا النَّبِىُّ لمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، فَإذا كَانَ سبحانه لم يجعلْ لرسوله أن يُحِّرمَ ما أحل الله له، فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟
قالوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ عَمَلٍ لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ)) وهذا التحريمُ كذلك، فيكون رداً باطلاً.
قالوا: ولأنه لا فرق بين تحريمِ الحلال، وتحليلِ الحرام، وكما أن هذا الثانى لغو لا أثر له، فكذلك الأولُ.
قالوا: ولا فرق بين قوله لامرأته: أنت علىَّ حرام، وبين قولهِ لِطعامه هو علىَّ حرام.
قالوا: وقوله: أنتِ علىَّ حرام، إما أن يُريد به إنشاء تحريمها، أو الإخبارَ عنها بأنها حرام، وإنشاء تحريم محال، فإنه ليس إليه، إنما هو إلى من أحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرامَ، وشرع الأحكام، وإن أراد الإخبار، فهو كذب، فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وكلاهما لغو من القول.
قالوا: ونظرنا فيما سوى هذا القولِ، فرأيناها أقوالاً مضطربة متعارضة يردُّ بعضُها بعضاً، فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من الله ورسوله، فنكون قد ارتكبنا أمرين: تحريمَها على الأول، وإحلالها لغيره، والأصلُ بقاءُ النكاح حتي تُجمع الأمة، أو يأتىَ برهان من اللَّهِ ورسوله على زواله، فيتعيَّن القولُ به، فهذا حجة هذا الفريق.
وأما من قال: إنه ثلاث بكل حال، إن ثبت هذا عنه، فيحتجُّ له بأن التحريمَ جُعِلَ كناية فى الطلاق، وأعلى أنواعه تحريمُ الثلاث، فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطاً للأبضاع.
وأيضاً فإنَّا تيقَّنَّا التحريمَ بذلك، وشككنا: هل هو تحريمٌ تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجديدُ العقد كالخُلع، أو لا يُزيله إلا أوجٌ وإصابة كتحريمِ الثلاث؟ وهذا متيقَّن، وما دونه مشكوكٌ فيه، فلا يَحلُّ بالشك.
قالوا: ولأن الصحابة أَفْنَوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلاث. قال أحمد: هو عن على وابنِ عمر صحيح، ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم، فإذا صرَّحَ بالغاية، فهى أولى أن تكونَ ثلاثاً، ولأن المحرم لا يسبقُ إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلاث، فكأنَّ هذا اللفظَ صارَ حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلاث.
وأيضاً فالواحدةُ لا تحرمُ إلا بعوض، أو قبلَ الدخول، أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من يراه، فالتحريمُ بها مقيَّد، فإذا أطلق التحريمُ، ولم يُقيَّيد، انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل الدخول أو بعده، وبعوض وغيره وهو الثلاث.
وأما من جعله ثلاثاً فى حق المدخول بها، وواحدة بائنة فى حقِّ غيرها، فحجتُه أن المدخولَ بها لا يُحَرِّمُها إلا الثلاث، وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة، فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملِكُ إبانتها بواحدة بائنة، فأجابوا بما لا يُجدى عليهم شيئاً، وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيَّدة، بخلاف التحريم، فإن الإبانة به مطلقة، ولا يكونُ ذلك إلا بالثلاثِ، وهذا القدرُ لا يُخلِّصُهم من هذا الإلزام، فإن إبانة التحريمِ أعظمُ تقييداً من قوله: أنتِ طالق طلقة بائنة، فإن غايةَ البائنة أن تحرمها، وهذا قد صرَّح بالتحريم، فهو أولى بالإبانة من قوله: أنت طالق طلقةً بائنة.
وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقِّ المدخول بها وغيرها، فمأخذُ هذا القول أنها لا تُفيد بوضعها، وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ، وهو يَمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض، كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة، فإن الرجعة حقٌّ له، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها، ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه، ولأن العِوض مستحق له، لا عليه، فإذا أسقطه وأبانها، فله ذلك.
وأما مَن قال: إنها واحدة رجعية، فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطاعِ الملك وهو يصدُق بالمتيقَّنِ منه وهو الواحدةُ، وما زاد عليها، فلا تعُّرضَ فى اللفظ له، فلا يسوغُ إثباتُه بغير موجب. وإذا أمكن إعمالُ اللفظ فى الواحدة، فقد وفى بموجبه، فالزيادةُ عليه لا موجبَ لها. قالوا: وهذا ظاهر جداً على أصل من يجعل الرجعية محرمة، وحينئذ فنقول: التحريمُ أعمُّ مِن تحريم رجعية، أو تحريم بائن، فالدالُّ على الأعم لا يدُل على الأخص، وإن شئتَ قلت: الأعمُّ لا يستلزِمُ الأخصَّ أو ليس الأخصُّ مِن لوازم الأعم، أو الأعم لا يُنتج الأخصَّ.
وأما من قال: يُسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي، أو محرَّم، أو يمين، فيكون ما أراد مِن ذلك، فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمِلٌ للطلاق والظهار والإيلاء، فإذا صُرِفَ إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له، وصرفه إليه بنيته، فينصرفُ إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصُرُ عنه، وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك، عتقت، وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة، واليمين من الأمة، لزمه ما نواه، قالوا: وأما إذا نوى تحريمَ عينها، لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين اتباعاً لظاهر القرآن، وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى ((صحيحه)): إذا حرّم الرجلُ امرأته فهى يمين يكفِّرها، وتلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُم فى رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظِّهار: إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ الظهار، وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه الله، فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلِّق عقيبَه على الفور. قالوا: ولأن اللفظ يحتمِلُ الإنشاء والإخبار، فإن أراد الإخبار، فقد استعمله فيما هو صالحٌ له، فيُقبل منه. وإن أراد الإنشاء سُئِلَ عن السبب الذى حرَّمها به. فإن قال: أردت ثلاثاً أو واحدة، أو اثنتين، قُبِلَ منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته، وإن نوى الظهار، كان كذلك، لأنه صرَّح بموجب الظهار، لأن قوله: أنتِ علىَّ كظهر أمى موجبُه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم، كان ظهاراً، واحتمالُه للطلاق بالنية لا يزيدُ على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمَها مطلقاً، فهو يمين مكفرة، لأنه امتناع منها بالتحريم، فهو كامتناعه منها باليمين.
وأما من قال: إنه ظهار إلا أن ينوىَ به طلاقاً، فمأخذُ قوله: أن اللفظ موضوعٌ للتحريم، فهو منكر من القول وزور، فإن العبدَ ليس إليه التحريمُ والتحليل، وإنما إليه إنشاء الأسباب التى يرتب عليها ذلك، فإذا حرَّم ما أحل الله له، فقد قال المُنْكر والزُّورَ، فيكون كقوله: أنتِ علىّ كظهر أمى، بل هذا أولى أن يكون ظهاراً، لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرَّح بتحريمها، فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار، فهو أولى أن يكون ظهاراً. قالوا: وإنما جعلناه طلاقاً بالنية، فصرفناه إليه بها، لأنه يصلُح كنايةً فى الطلاق فينصرِف إليه بالنية بخلاف إطلاقه، فإنه ينصرِف إلى الظهار، فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً، إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه، يمين مكفرة، فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين، نوى ما يصلُح له اللفظ، فقُبِلَ منه.
وأما من قال: إنه ظهار وإن نوى به الطلاقَ، أو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ فمأخذُ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً، ولا يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلاق كما لو قال: أَنتِ علىَّ كظهر أمى ونوى به الطلاق، أو قال: أعنى به الطلاق، فإنه لا يخرُج بذلك عن الظهار، ويصيرُ طلاقاً عِند الأكثرين: إلا على قول شاذ لا يُلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه فى الجاهلية مِن جعل الظهار طلاقاً، ونسخ الإسلام لذلك، وإبطلاله، فإذا نوى به الطلاقَ، فقد نوى ما أبطله الله ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار، وقد نوى مالا يحتمِلُه شرعاً، فلا تؤثِّر نيته فى تغيير ما استقرَّ عليه حكمُ الله الذى حكم به بينَ عباده، ثم جرى أحمدُ وأصحابُه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك، والحلف به كالطلاق والعتاق وفرَّق شيخ الإسلام بين البابين على أصله فى التفريق بين الإيقاع والحلف، كما فرَّق الشافعى وأحمد رحمهما الله، ومَنْ وافقهما بين البابين فى النذر بينَ أن يحلف به، فيكون يميناً مكفرة، وبين أن ينجزه أو يعلِّقه بشرط يقصد وقوعه، فيكون نذراً لازم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى الأيمان إن شاء الله تعالى. قال: فيلزمهم على هذا أن يفرِّقوا بين إنشاء التحريم، وبين الحلف، فيكون فى الحلف به حالفاً يلزمه كفارة يمين، وفى تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهراً يلزمُه كفارةُ الظهار، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً.
وأما من قال: إنه يمينٌ مكفرة بكلِّ حال، فمأخذ قوله: أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمينٌ تُكفَّر بالنصِّ، والمعنى، وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: {يَأَيُّها النَّبىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ولابد أن يكون تحريم الحلال داخلاً تحت هذا الفرض، لأنه سبُبُه، وتخصيصُ محل السبب من جملة العام ممتنع قطعاً، إذ هو المقصودُ بالبيان أولاً، فلو خُصَّ لخلا سببُ الحكم عن البيان، وهو ممتنع، وهذا استدلال فى غاية القوة، فسألتُ عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: نَعَم التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار، ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ اليمين باللَّه. قال: وهذا معنى قولِ ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم، إن التحرِيمَ يمين تكفر، فهذا تحريرُ المذاهب فى هذه المسألة نقلاً،وتقريرها استدلالاً، ولا يخفى- على من آثر العِلم والإنصاف، وجانب التعصُّب ونصرة ما بنى عليه من الأقوال- الراجحُ مِن المرجوح وباللَّه المستعان.
وقد تبين بما ذكرنا، أن من حرَّم شيئاً غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته يَحْرُمْ عليه بذلك، وعليه كفارةُ يمين، وفى هذا خلاف فى ثلاثة مواضع.
أحدها: أنه لا يحرم، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يحرم تحريماً مقيداً تُزيله الكفارة، كما إذا ظاهرَ من امرأته، فإنه لا يَحِلُّ له وطؤها حتى يُكفِّر، ولأن الله سبحانه سمَّى الكفارة فى ذلك تَحِلَّةً، وهى ما يُوجب الحِلَّ، فدل علي ثبوت التحريم قبلها، ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، ولأنه تحريمٌ لما أبيح له، فيحرم بتحريمه كما لو حرَّم زوجته.
ومنازعوه يقولون: إنما سُميت الكفارة تحِلَّه مِن الحَل الذى هو ضِدُّ العقدِ لا مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم، فهى تَحُلُّ اليمين بعد عقدها، وأما قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم:1]، فالمرادُ تحريمُ الأمِة أو العسل، ومنعُ نفسه منه، وذلك يُسمى تحريماً، فهو تحريم بالقول، لا إثبات للتحريم شرعاً.
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ، أو بقوله: أنتِ علىَّ حرام، فلو صحَّ هذا القياس، لوجب تقديمُ التكفير على الحنث قياساً على الظهارِ، إذ كان فى معناه، وعندهم لا يجوزُ التكفيرُ إلا بعد الحنث، فعلى قولِهم: يلزم أحد أمرين، ولا بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض الله تحِلَّة اليمين، فيلزم كون المحرم مفروضاً، أو من ضرورة المفروض، لأنه لا يَصِلُ إلى التَّحِلَّةِ إلا بفعل المحلوف عليه، أو أنه لا سبيلَ له إلى فعله حلالاً، لأنه لا يجوز تقديمُ الكفارة، فيستفيدُ بها الحل، وإقدامه عليه وهو حرامٌ ممتنع، هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين، وبعدُ، فلها غور، وفيها دِقة وغموض، فإن من حرَّم شيئاً، فهو بمنزلة من حَلَفَ باللَّه على تركه، ولو حلف على تركه، لم يَجز له هتكُ حرمة المحلوفِ به بفعله إلا بالتزام الكفارة، فإذا التزمها، جاز له الإقدامُ على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على تركِ الكفارة، فإن الشارع لا يُبيح له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه، ويأذن له فيه، وإنما يأذنُ له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة، فيكون إذنه له فيه، وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رُخصةً من الله له، ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من الكفارة، فإذا لم يلتزِمْه بقى المنعُ الذى عقدَه على نفسه إصراً عليه، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه، والتزم حُكمه، وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها، ولا يجوز الحنثُ، فوسَّع الله على هذه الأمة، وجوَّز لها الحنث بشرط الكفارة، فإذا لم يُكفِّرْ لا قبلُ ولا بعدُ لم يُوسَّع له فى الحنث، فهذا معنى قوله: إنه يحرم حتى يكفِّر.،وليس هذا من مفردات أبى حنيفة، بل هو أحدُ القولين فى مذهب أحمد يُوضحه: أن هذا التحريمَ والحلف قد تعلَّق به مانعان: منع من نفسه لفعله، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة، فلو لم يُحرِّمه تحريمه أو يمينه، لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثره، بل كان غايةُ الأمر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقاً أو صوماً لا يتوقَّفُ عليه حلُّ المحلوف عليه ولا تحريمه البته، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق، فلا يكونُ للكفارة أثر البته، لا فى المنع منه، ولا فى الإذن، وهذا لا يخفى فسادُه.،وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيثُ لا يجوزُ تقديمُ الكفارة، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير، فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه، وإنما يكونُ التحريمُ ثابتاً إذا لم يلتزم الكفارة، ومع التزامها لا يستمرُّ التحريم.
الثانى: أن يلزمه كفارة بالتحريم، وهو بمنزلة اليمين، وهذا قولُ مَنْ سميناه من الصحابة، وقولُ فقهاء الرأى والحديث إلا الشافعىَّ ومالكاً، فإنهما قالا: لا كفارة عليه بذلك.
والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها، فإن الله سبحانه ذكر تَحِلَّةَ الأيمانِ عَقبَ قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلال قد فُرِضَ فيه تحلَّةُ الأيمان، إما مختصاً به، وإما شاملاً له ولغيره، فلا يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة فى السياق عن حكمِ الكفارة، ويُعلَّق بغيره، وهذا ظاهرُ الامتناع.
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين، بل أقوى، فإن اليمينَ إن تضمن هتكَ حُرمة اسمه سبحانه، فالتحريمُ تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع الشىء حلالاً فحرَّمه المكلف، كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه، ونحن نقولُ: لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة الاسم، ولا التحريمُ هتكَ حرمة الشرع، كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء، وهو تعليلٌ فاسد جداً، فإن الحِنثَ إما جائز، وإما واجب أو مستحب، وما جوَّز الله لأحد البتة أن يَهْتِكَ حُرمة اسمه، وقد شرع لِعباده الحِنث مع الكفارة، وأخبره النبىُّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها كفَّر عن يمينه، وأتى المحلوفَ عليه، ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح فى شريعة قطُّ، وإنما الكفَّارة كما سماها الله تعالى تحلَّة وهى تفعلة من الحل، فهى تَحُلُّ ما عقد به اليمين ليس إلا، وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم، وظهر سِرُّ قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُم تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 2] عقيب قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1].
الثالث: أنه لا فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعىَّ وحدَه، أوجب فى تحريم الأمة خاصة كفارةَ يمين، إذ التحريمُ له تأثير فى الأبضاع عنده دون غيرها.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى